حميد اتباتـو

الأعمال التي نشاهدها تتسم بالتفاهة ولا تستحق أن يراها الجمهـور

في حوار مع الراحل محمد الكغـاط


ماذا عسانا أن نقول لزوابع الموت؟ وما الذي يجدي للتعبير عن ارتجاجنا العميق وخرابنا الداخلي؟ وكيف يمكن التعبير عن الخسارة الحقيقية التي خلفها غروب السي محمد الكغاط؟ لقد غدر الموت كعادته, ولم تسعفنا كل الصيغ للتعبير عن حبنا واعتزازنا وتقديرنا لشموخ السي محمد الكغاط, لكنه سيسمح لنا كعادته طبعا, بنشر هذا الحوار الذي أجريناه معه ولم تسمح بعض الظروف بنشره في حياته.

***

 

س: ماذا عن أحوال المسرح المغربي أولا؟

ج: بالرغم من أن هذا السؤال يطرح باستمرار, فأنا أعتبر أن الظروف الراهنة تدعو إلى إعادة طرحه لأسباب عديدة منها, أولا أن هناك جهات كانت مسؤولة عن المسرح بدأت تتخلى عنه, إن لم نقل أنها تخلت عنه نهائيا, وثانيا هناك جهات جديدة بدأت تهتم بالمسرح وتوليه بعض العناية, وهناك ثالثا, مسائل جديدة ظهرت سواء بالنسبة للدعم أو بالنسبة للجانب الثقافي, وهناك رابعا بعض المؤسسات الجامعية التي بدأت تهتم بالمسرح سواء على مستوى الأبحاث والدراسات أو على مستوى الممارسة والتطبيق, ولهذا برأيي, فبالرغم من أن هذا السؤال يتكرر, فإنه يجب أن يطرح بين الحين والآخر ليجعلنا نقف على المراحل التي قطعناها والمراحل التي وصلنا إليها, والمراحل التي نطمح إلى تحقيقها.

إن حالة المسرح الآن هي بين مد وجزر, وهي حالة إذا كانت تدعو للقلق عند بعض المشتغلين بالمسرح والمهتمين به, فإنها على العكس من ذلك تدعو عند البعض الآخر, إلى التفاؤل وإلى التطلع نحو مستقبل أفضل, وبالنسبة إلي ألاحظ أن هذه الفترة التي يمكن أن نصفها بفترة مخاض, وهي فترة طويلة جدا وكل أملنا في أن تكون لها نهاية, وجدنا أنفسنا نعيد الكرة من جديد لأننا في كل سنة لا نبدأ الموسم المسرحي من جديد, فإذا كان من شأن هذا المد والجزر, وهذا الأخذ والعطاء, وهذه الاختلافات في الآراء أن تكون مفيدة ولها جوانب إيجابية, فإن هذه الإيجابيات لم تظهر برأيي, ونتمنى أن تتاح لها الفرصة للظهور قريبا.

 

س: اشتغلتم السي محمد في تجربتكم المسرحية لمدة طويلة مع فرقة »هواة المسرح الوطني« إلا أنكم تقدمتم في موسم سابق بملف للدعم رفقة فرقة أخرى هي فرقة »الجدار الرابع« التي قدمتم معها أحد أعمالكم الجديدة, فهل انتهت مرحلة »هواة المسرح « بالنسبة إليكم؟

ج: على العكس, »هواة المسرح الوطني« تحمل رمزا كبيرا, وهي فرقة تحمل في تاريخها حقبة من تاريخ المسرح بفاس, لأن هواة المسرح أسست سنة 1956 أي مباشرة بعد الاستقلال، وشاركت في المهرجانات الوطنية للشبيبة والرياضة الأولى, وشاركت في المباراة التي سبقت المهرجان وكانت حاضرة باستمرار، وكانت تحصل على جوائز في جل المشاركات ف (هواة المسرح) بالنسبة إلي حتى لو أنني فكرت في أن أنشئ فرقة محترفة, سأفضل أن يكون اسمها (هواة الاحتراف).

إن السبب الذي جعل ملف الدعم المتحدث عنه, باسم (الجدار الرابع) هو أنه لم يكن بنية أن أتقدم لطلب الدعم كمسؤول عن فرقة, أولا لأنني كذلك عضو بلجنة الدعم, ولأنني لست على استعداد للقيام بهذا العمل الإداري, فأنا أفضل دائما أن أشتغل في الكتابة أو في الإخراج أو في التشخيص, وأنا بصراحة, لا أستطيع القيام بالعمل الإداري, ولا أتوفر على المؤهلات التي تجعلني أقوم به على الوجه المطلوب, وبالصدفة اختار صديقي محمد الإدريسي في فرقة » الجدار الرابع« مسرحية: »حكايات فلان فلان الفلاني فلتان« بصفتي مؤلفا ومخرجا للعمل, وقد تقدم بهذا الملف باسم »الجدار الرابع« على أنني طرف مشارك في الجانب الإبداعي, وليس في الجانب الإداري.

 

س: لقد لقي هذا العمل إقبالا من طرف جمهور مدينة فاس, فكيف تقدمه لمن لم يشاهده؟

ج: مسرحية, حكايات فلان, فلان الفلاني, فلتان, هي العمل الوحيد الذي كتبته, ورجعت إليه لإعادة كتابته, وهذا قلما يحدث بالنسبة إلي, لأنني كلما حاولت أن أرجع إلى عمل سابق، خاصة إذا كان قد سبق عرضه, أفضل أن أقوم بكتابة عمل جديد على أن أعود لهذا العمل القديم, ثم لأنني أرى أن كتابات السبعينات, كانت خاضعة لظروف خاصة ولأفكار واتجاهات خاصة, ولذلك فالعودة إلى نصوص السبعينات في هذه المرحلة لا يمكن أن تتم إلا بقراءة جديدة وبتصوير جديد, وبرؤية جديدة »حكاية,فلان, فلان, الفلاني, فلتان« لاتنتمي إلى السبعينات, ولكنها كتبت أواخر الثمانينات, وهي مسرحية تقوم على فكرة استلهام التراث المغربي ليس التراث العام المغربي أو العربي, وإنما التراث الذي يتوفر عليه كل واحد منا والذي يحمله في حياته, وفي داخله. يف البداية كانت بعنوان «حكاية فلان فلان الفلاني فلتان»، وحين رجعت إليها وأعدت كتابتها, أضفت إليها »حكايات« لأنها لم تعد حكاية واحدة ولكنها حكاية تتناسل وتتفرع عنها حكايات متعددة. هي حكاية طفل يحمل ثلاثة وجوه, وجه فلان, ووجه فلاني الفلاني, ووجه فلتان, وفي مواقف متعددة يعيشها هذا الطفل ذو الوجوه الثلاثة, يعيشها منذ ميلاده إلى أن يصبح عضوا فعالا وله مركزه في المجتمع, نعيش معه هذه اللحظات بشخصياته الثلاث, وتمثل شخصية فلان الجانب الانهزامي المتواكل, القانع الذي لا يناقش, أما شخصية فلان الفلاني فتمثل شخصية الإنسان القابل للوضع والقانع والمتكيف مع الظروف, وبين فلتان, أو الإنسان المتمرد الذي يحاول أن يثور على نفسه وعلى الظروف التي تحيط به وعلى قدره الاجتماعي. ففلان الفلاني يتموقع في الوسط بين فلان وفلتان, لهذا فنفس الشخصية يشخصها ثلاثة ممثلين.

وبالإضافة إلى التراث الفردي يمكن أن نتحدث عن وجود نوع خاص من التراث, حيث نجد رجوعا إلى »ألف ليلة وليلة« ففي البورولوج, المشهد الافتتاحي, تحكي شهرزاد لشهريار الحكاية التي حكتها شهرزاد الفعلية, في »ألف ليلة وليلة« وهي »حكاية الليلة الأولى«، أي حكاية التاجر الذي أكل الثمرة ورمى نواتها فأصابت ابن الجن وقتلته وخرج الجني وأراد أن يقتل التاجر... الخ, إلا أن شهريار سيطلب من شهرزاد أن تحكي له قصصا واقعية, قصص الأيام بدل قصص الليالي, فتحكي له »قصة« فلان, فلان الفلاني, فلتان, والمفارقة التي تعطي لهذا النص بعده الاجتماعي والفكري والسياسي هي أن فلتان عندما يستطيع مقاومة جميع العقبات وينتصر على كل العراقيل التي تصادفه في الحياة, ويحصل على وظيفة, يصبح هو نفسه شهريار, وهكذا نعود إلى المشهد الأول وتريد شهرزاد أن تحكي له قصة, فلان, وفلان الفلاني وفلتان, إلا أنه يطلب منها أن تحكي له قصة الجن الذي قتل التاجر ابنه فخرج لينتقم منه.

 

س: الاحتراف هو أحد اهم المعايير التي اعتمدتها لجنة الدعم لاختياري الفرق المدعومة, وربما كان حرمان فرقة »الجدار الرابع« حينما تقدمت للدعم نتيجة لتطبيق هذا المعيار, ما هو تحديدكم لمفهوم الاحتراف؟ وما هو تعليقكم على اعتماد هذا المقياس في توزيع الدعم؟

ج: أبدأ بتحديد الاحتراف, الغريب أنه في »الاصطلاح« المستعمل عند المغاربة هناك تحديد خاص فالكثير من المحترفين المغاربة يعطون معنى خاص للاحتراف, فالفنان أحمد الطيب العلج, على سبيل المثال, عندما يتحدث عن نفسه, يقول لك إنني محترف من حيث إتقان الصنعة, ولكنني هاوي من حيث تعلقي بالمسرح, فالكثير من المحترفين عندما يريدون أن يظهروا بهذه الصفة, وهذا هو المسرحي الحقيقي. هاوي في ارتباطه وحبه للمسرح واحترافي في تقنياته وإتقان صنعته ومهنته.

الوضع شاذ عندنا, لأنه ليس لدينا محترف يخضع لقانون. والمسرح عندنا لا يتوفر على قانون يصنفه ضمن مهنة حرة أو غير حرة, فما يوجد عندنا هو أن أناس يشتغلون بالمسرح ويعيشون بالمسرح, وحتى القول بأن المسرحيين عندنا يعيشون من المسرح »التي يقول بها الذين يدافعون على الاحتراف مسألة غير صحيحة لأن هؤلاء المسرحيون المتحدث عنهم لا يعيشون من المسرح.

وجل المسرحيين المحترفين لا يعيشون من المسرح, ربما هناك فرقة أو فرقتان أو ثلاث فرق على الأكثر يمكن أن تعيش من المسرح, لكن هذا ليس دائما, لأن هذا الإقبال على نوع من المسرح الآن هو إقبال مرحلي ولا يمكن أن يستمر, لذلك فالمفهوم الذي نطلقه على المحترف بالقول إنه هو الذي يعيش من المسرح غير صحيح.

إن مشروع القانون الذي يتحدث عنه من طرف الجميع هو الذي سيحدد المسرحي الذي يمكن ان نعتبره احترافيا, وبإمكان هذا القانون أن يحدد مهنة المسرح ويضع لها قوانينها التي تجعلها بالفعل مهنة حرة, أو تابعة لمؤسسة معينة لكن ما يوجد الآن هو أننا حين نتحدث عن الاحتراف, فنحن نتحدث عن احتراف خاص بنا, وعن نوع من المصطلح الذي يخضع لبيئة معينة, وليس هو المصطلح الذي يصلح لكل البيئات التي لها تقاليد مسرحية.

بالنسبة للجنة الدعم, كانت مسألة الاحتراف تفرض نفسها على بعض أعضاء اللجنة, ويتمسكون بها على أساس أن الفرق الجديرة بالدعم هي الفرق المحترفة, وكانت تثار نقاشات طويلة »حين كنت في اللجنة« ولكن في النهاية كنا نصل في اللجنة إلى أنه من الأحسن أن يتم دعم الذين يتفرغون للمسرح وليس الذين يعيشون من المسرح, أي أنهم بحاجة إلى أموال, وينبغي أن ينالوا الدعم ليعيشوا, لكن ما تبين بعد ذلك هو أن هؤلاء الذين يعيشون من المسرح فيهم من يقدم أعمالا تجريبية تستحق أن تنال الدعم وأن تكون مدعومة من وزارة الشؤون الثقافية, لأن المسرح الذي تدعمه وزارة الشؤون الثقافية يجب أن يكون ثقافيا في اعتقادي, وإلى جانب هؤلاء هناك بعض الفرق, التي لا يستحق مسرحها الدعم, في اعتقادي ليس لأنها تعتمد على الشباك وتحصل على مداخيل، ولكن لأنها تقدم أعمالا ليس في صالح المسرح المغربي, وليس من شأنها أن تساهم في تطويره, بل على العكس من ذلك, فإن دعم هذه الأعمال يكرس هذه الرداءة التي نشاهدها والتي تكاد تصبح هي الأساس.

طبعا, أنا لست ضد المسرح التجاري، ولست ضد أي نوع من المسرح, لكن شريطة أن لا يكون هذا النوع هو المهيمن وأن تضيع النخبة, وتظل محرومة من مسرح يستجيب لثقافتها ولمستواها الفكري, ولتطلعاتها الثقافية والحضارية بصفة عامة.

 

س: سنعود للتساؤل معكم السي محمد حول المسرح التجاري المغربي, ولكن نود أن نعرف موقفكم من مسألة الدعم وتصوركم لما يجب أن يكون عليه هذا الدعم, وما يجب أن يكثفه في مشهدنا المغربي؟

ج: اعتبرت دائما أن الدعم مكسب للجمعيات وللفرق وللمسرح المغربي, وهو استجابة للمطالب التي نادى بها المسرحيون منذ فترة طويلة, واستجابة للجهود التي بذلتها النقابة الوطنية لمحترفي المسرح لكن مع ذلك تبقى طريقة صرف هذا الدعم هي التي تطرح بعض المشاكل فهناك أولا اختيار للجنة, حيث يجب أن يعاد النظر في طريقة اختيار أعضائها سواء الذين ينتمون إلى الوزارة, أو إلى النقابة أو الذين هم خارج هاتين المؤسستين، وهناك ثانيا تاريخ إيداع الملفات والوقت المخصص لاجتماعات أعضاء اللجنة ثم الفترة المخصصة لإعلان النتائج, ثم التاريخ الذي يحدد للانطلاق الموسم المسرحي, ففي اعتقادي كل هذه الجوانب بحاجة إلى إعادة النظر, وقد سبق أن اقترحت على السيد الوزير برنامجا في ما يتعلق بالتوقيت, وهو كالتالي:

تقدم الملفات في بداية شهر مارس إلى أواخر ماي, ثم تخصص أربعة أشهر ( من يونيو إلى شتنبر) للجنة من اجل دراسة الملفات ثم يكون شهر أكتوبر هو شهر إعلان النتائج, ومع هذا يفتتح الموسم المسرحي, وهكذا يمكن أن تقوم اللجنة بعملها في ظروف ملائمة ومساعدة, ويمكن لهذا أن يوفر الوقت الكافي للفرق التي تختار عادة لانطلاق الموسم المسرحي لتهييء مسرحياتها, خاصة أن هاته الفرق المحترفة لا تنتظر الدعم من أجل أن تبدأ الموسم. فمن المفروض أن تكون مع بداية شتنبر أو اكتوبر جاهزة وعملها جاهز للعرض, أنا اعرف أن عمل »مسرح اليوم« مثلا, يكون عادة جاهزا مع بداية أو أواسط شهر شتنبر, من كل موسم. وما تدعيه بعض الفرق من أنها تحتاج إلى أن تعرف هل هي مدعومة أم لا من أن تشارك في افتتاح الموسم, فهذا يعني أنها ليست محترفة, لأنها إذا كانت كذلك فلابد أن تكون على استعداد للموسم في أية لحظة بدعم أو بدون دعم.

س: تأسست عندنا العديد من الفرق المسرحية, وهناك دعاية للعديد من العروض المسرحية وهذا يوحي بوجود فعل مسرحي حقيقي, هل في نظركم يمكن الحديث عن حركية مسرحية حقيقية في مجالنا المغربي, تبشر بخدمة مشروعنا المسرحي؟

ج: المسرح يقوم على هذه الحركية, ومن المفروض أن يرتبط المسرح بالحركية, ففي الدول التي لها تقاليد مسرحية, يمكن بالفعل أن نتحدث عن هذه الحركية. إذا انطلقنا من المواسم السابقة نجد أن عددا مهما من الفرق قد تقدمت بملفات للجصول على الدعم, وهذا يعني أن كل هذه الفرق مستعدة لتقديم عمل مسرحي إذا أتيحت لها ظروف العمل, وهناك إحصائيات تذهب إلى أن عدد الفرق المسرحية يتجاوز أربع مائة فرقة, وإذا أردنا أن نتحدث عن الحركية انطلاقا من هذه الفرق فهذا شيء ممكن, ولكن أين يمكن أن تمارس هذه الفرق لإفراز هذه الحركية. في المغرب عدد المدن الكبيرة معروفة ويتجاوز عشرة مدن, ولكن إذا أردنا أن نرى البنايات التي تضمن الحركية للمسرح فإننا لا نجدها إلا في مدينة واحدة هي الدار البيضاء, وأنا أستثني الرباط, فالرباط، باعتبارها العاصمة، تتوفر على مسرح محمد الخامس كقاعة وحيدة, بالإضافة إلى قاعة با حنيني وقاعة سمية, لكن ليس هناك ما يضمن هذه الحركية المسرحية, على عكس الدار البيضاء التي تتوفر على العديد من القاعات بالرغم من كونها ليست كلها في المستوى الذي يضمن هذه الحركية, لكن إذا تركنا الرابط والدار البيضاء أين يمكن أن تكون هذه الحركية في مكناس وفي مراكش؟ في فاس؟ إننا لا نجد أي شيء يدل على حركية مسرحية في هذه المدن وفي غيرها.

في وقت من الأوقات اعتقدنا أنه يمكن تقديم المسرح في أي فضاء, في الساحات العمومية مثلا, وفي الأماكن المغلقة التي ليست معدة أصلا للمسرح. لكن مع الممارسة والتجربة تبين لنا أن هذا غير ممكن وأن اعتمادنا على هذه الفضاءات التي ليست فضاءات مسرحية, لا تساهم في تطوير المسرح وتعمل على التضحية بجانب كبير في المسرح وهو السينوغرافيا, فالمسرح هو فن الجو, وفن الحالة, أي أن المسرح لكي يكون مقنعا يجب أن يخلق جوه الذي يقنع به الملتقى والمكان المسرحي مكان مقدس, معبد, هو مكان يفرض, أو يجب أن يفرض, الاحترام على رواده.

يمكن أن نعتمد على مسرح الهواء الطلق والحلبات المفتوحة، ومسرح الفضاءات التجريبية الصغيرة, ولكن لابد من توفر القاعات المهيبة التي تعطي للمسرح قدره وهيبته وتجعل الناس ينظرون إليه نظرة احترام. إن الحركية التي يمكن أن نتحدث عنها هي بعض الإعلانات التي نشاهدها في التلفزيون لبعض الفرق (المحترفة) والتي تتحرك في الغالب طيلة هذه المواسم السابقة، يضاف إلى ذلك بعض الجمعيات الهاوية التي تتحرك في مناسبات معينة, أو تعرف الحركة المسرحية بعض المهرجانات القليلة, هذه إذن الظروف التي تؤطر حركية المسرح المغربي, وأعتقد أنها ظروف لا تساعد على خلق التقليد المسرحي الذي يمكننا من الحديث عن حركية مسرحية فاعلة.

 

س: تقم العديد من الفرق المسرحية عروضها ببعض المدن المغربية, ويقدم التلفزيون المغربي كذلك عروضا لبعض هذه الفرق, لكن الملاحظ هو أن العديد من هذه العروض لا تتوفر على الحد الأدنى من المواصفات الجمالية والفكرية, فهل تم التفريط في المشروع الفكري والجمالي للمسرح المغربي؟

ج: بالنسبة للتلفزة المغربية منذ نشأتها كانت تقدم برنامجا جيدا تحت عنوان » المسرح هذا المساء« والبرنامج أصله فرنسي, وشخصيا شاهدت مسرحيات في التلفزيون المغربي, مسرحيات, ليست تجربة ولكنها مسرحيات عالمية لها قيمة، وهي موقعة من طرف شيكسبير وموليير. وللأسف لم نعد نرى هذه المسرحيات في التلفزيون المغربي. فالتلفزيون ينطلق من تصور يراعى, حسب رأيه, المستوى الثقافي للمجتمع المغربي, وانا عشت هذه التجربة حين اقترحت مسرحية على التلفزيون المغربي في إحدى الفترات وقال لي الصديق المرحوم فريد بن مبارك, إن التصور الذي يسير عليه التلفزيون هو مخاطبة أكبر قدر من المشاهدين, أما هذه الأعمال التي تخص النخبة, فالتلفزيون لا يرى فائدة في التعامل معها. وقال بن مبارك بالحرف »إن لي أعمالا أود أن تدرج في التلفزيون لكنني لا أستطيع« على الرغم من أنه كان مسؤولا على قسم للإنتاج, كما قال لي كذلك: »إنني مقتنع أن هذه الأعمال هي التي يجب أن تدرج ليشاهدها الناس لكن تصور التلفزيون هو غير ذلك« وبالنسبة لي أظن أننا وصلنا الآن إلى المرحلة التي يمكن أن نغير فيها هذا التصور. أي أن نعطي لهذه النخبة حقها. فالتلفزيون حين ظهر, ظهر نخبويا, حيث لم يكن بإمكان كل الناس أن تتوفر على هذه الجهاز وكانت الأسر تتزاور في ما بينها نهاية الأسبوع من أجل مشاهدة السهرة, كان الميسورون هم السباقون لشراء هذا الجهاز, والفن هو أيضا منتوج نخبوي فالفن لم يكن متاحا للجميع والآن مع شعبية الثقافة والفنون أصبح له بعد شعبي, وهذا شيء جميل, لكن مع ذلك لابد أن تحظى النخبة المثقفة بالبرامج والمسرحيات التي تلائمها. أعتقد أن التلفزيون له دور كبير في تكييف الذوق ولذلك, فإذا استمر في تقديم هذا النوع من المسرح الذي لا نعارضه وله جمهوره, فإن الذوق الفني سيختل لا محالة, فلو كانت لنا قناة أخرى تقدم أعمالا تخاطب عقلية اخرى وتخاطب نخبة المثقفين, عند ذلك نقول لابأس لأنه سيكون تكافؤ ولأنه سيكون هناك من يفضل مشاهدة تلك الأعمال وستكون لغير هؤلاء إمكانية لمشاهدة الأعمال التي تروقهم. ومن الغريب أن تكون بعض القنوات الثقافية في أوروبا لها مشاهدون قليلون جدا وتصل فيها نسبة المشاهدة إلى درجة متدنية ولكن مع ذلك لا يستغنى عنها, لأنه إذا افترضنا أن نسبة المثقفين قليلة فهي من حيث النوع والكيف مهمة. إن التلفزيون في توجهه الجديد, ينتبه إلى مسؤوليته في تكوين الذوق المسرحي, وهناك بطبيعة الحال من يرى أن المسرحية في التلفزيون ليست مسرحا لأننا حين نشاهد هذه المسرحية نهتم بموضوعها, وبتصويرها التلفزيوني, لكنها ليست هي المسرح. ومع ذلك فالتلفزيون يستطيع أن يؤثر على الذوق, ويستطيع أن يقربنا من المسرح.

 

س: انشغلتم لمدة طويلة بمسألة التجريب وأبدعتم العديد من الأعمال ألم يفض بكم كل هذا إلى تأسيس ملامح قالب مسرحي خاص بكم؟

ج: عندما تعرفت على مفهوم التجريب نظريا كنت قد بدأت المسرح مجربا لظروف خاصة, وعندما حاولت أن أتعمق في التنظير لهذه الكلمة وصلت إلى أن المسرح كله تجريبي, وأنه لا يمكن أن يكون غير ذلك, وهذا بالطبع بالنسبة للذين يحملون هم المسرح ويشغلهم هاجس تقديم أعمال متميزة, فحتى بالنسبة لاسخيلوس وسوفوكليس, ويوربيديس كانوا مجربين, إن كل الذين يهتمون بالمسرح اهتماما حقيقيا ويمارسونه ممارسة حقيقية هم مجربون أساسا, ولكن إذا أخذنا التجريب بالمفهوم الغربي الذي ظهر في فترة من الفترات, فإننا نجد أن المقصود به هو الخروج على ما هو سائد سواء على مستوى معمار القاعة أو كتابة النص, أو الإخراج, أو مخاطبة الجمهور, أي هو المغامرة في الإبداع وهو البدعة في الإبداع والبدعة هنا حلال ومطلوبة بعكس البدعة الدينية.

التجريب إذن هو بدعة مستحسنة ومرغوب فيها, وهي أيضا تخاطب فئة قليلة من الناس وتحاول أن توسع قاعدتها, قاعدة جمهورها, وتحاول أن تكون وسيلة للتطوير حتى لا يبقى هذا الفن جامدا في مكانه ويعتمد على قواعد ثابتة لا يستطيع الخروج عنها. والتجريب ومحاولاته عندما كثرت جعلتنا نتعرف على دراماتورجيات جديدة خارج دراماتورجيا أرسطو, وإن كنا نعترف أن الدراماتورجيا الأرسطية هي الأصل. وأعتقد أننا كلما خرجنا عليها وابتعدنا عنها نستطيع أن نحقق بعض المساحات الجديدة, مسحات المملوءة, وحتى بعض المساحات الفارغة, ولكننا نعود برضانا أو بغيره إلى أرسطو, فالتجريب, برأيي, هو الإبداع في المسرح, وإذا لم يكن هناك تجريب لن يكون هناك إبداع, لذلك فأنا شخصيا عندما أكتب نصا مسرحيا يستغرق مني هذا وقتا طويلا قد يستغرق سنتين أو أكثر, لأنني لا أستطيع أن أكتب الفكرة, وهي عندي موجودة لأن الأفكار مطروحة في الطريق, ولا يمكن أن أبدأ في صياغتها, إلا إذا عثرت على الصيغة التي تناسبها, فحتى القالب الآن بدأت أتجنب استعماله, في فترات من الدراسة نستعمل القالب, وأشياء من هذا القبيل ولكن من حسن الحظ أننا نتطور, ونكتشف أن ما كنا نبحث عنه إما أنه غير موجود, أو أنه موجود ولم ننتبه إليه, وعلينا أن نبحث دائما.

 

س: تسعون رفقة مجموعة من الفعاليات المسرحية إلى تأسيس إطار للبحث والتجريب في المجال المسرحي. ماذا عن هذا الإطار؟ وما هي غاياته؟

ج: الواقع أن الفكرة يتزعمها صديقنا كريم لفحل الشرقاوي ومجموعة من الأصدقاء والفكرة قديمة غايتها تكوين جمعية أو مجموعة من الناس والفرق لتتكاثف وتتساند في ما بينها من أجل العمل على النهوض بالمسرح التجريبي وتطويره والاستمرار فيه, وقد اتخذ »مسرح نون« هذه البادرة من أجل خلق هذه الجمعية أو هذه الجماعة التي لها نفس الشغل ونفس الهاجس وهو المسرح التجريبي، وربما تكون نواة لجمع المجهودات ولخلق لقاءات للمناقشة والتواصل وتبادل الخبرات على المستوى الوطني ثم على المستوى العربي, وربما على المستوى العالمي وأعتقد أن هذا المشروع إذا أتيح له أن يتحقق فإنه سيكون في صالح المسرح المغربي, كما سيكون واجهة يمكن أن تقف في وجه الانحراف... انحراف الذوق الذي بدأ يتسرب لذوق الجمهور المغربي.

س: تتميز الساحة المسرحية بالمغرب بظهور العديد من الفرق التي تقدم عروضا تجارية في المدن المغربية, فهل يمكن الحديث عن هيمنة التوجه التجاري عندنا وما هو تقييمكم لهذا المسرح؟

ج: أنا بدوري أتساءل هل يمكن أن نسمي ما نشاهده في الآونة الأخيرة مسرحا تجاريا؟ لكي يكون عندنا مسرح تجاري, في اعتقادي ينبغي أن تكون عندنا أنواع أخرى, كالمسرح الثقافي, والمسرح التجريبي, والمسرح الجاد, والمسرح التابع للقطاع العام, والمسرح التابع للقطاع الخاص...الخ, أما الآن فما نشاهده هو عبارة عن أعمال يمكن أن تعرض في بعض القاعات ويمكن أن يكون لها جمهورها الخاص ولكن يؤسفني شخصيا أن تصل هذه الأعمال إلى بيوت الناس عن طريق التلفزة لآنها تقدم أشياء سيئة, فحتى الأطفال الذين لا يعرفون المصطلحات الشاملة التي تتداول في بعض الأوساط فإن هذه الأعمال تتكفل بإيصالها إليهم وتعليمهم إياها. وما يلاحظ على هذه المسرحيات هو أنها تخلو من الفكر تماما والفكر هنا بمعناه العام, كما تخلو من أية جمالية ومن التقنية المسرحية.

إن بعض هذه الأعمال لا تستحق أن تدرج ضمن المسرح حتى نضيف إليها »المسرح التجاري« وما يزيد من عمق هذه المشكل هو أن هذه الأعمال تدعم, من طرف وزارة الثقافة والاتصال. شخصيا أعتقد أن دعم المسرح كفكرة شيء جيد ولا يمكن إلا أن نثمنه, ولكن أن تدعم مثل هذه الأعمال, فهذا يفهم بأنه رقابة على المسرح الجاد, والمسرح الثقافي, والمسرح الذي من شأنه أن يخدم فكرة المسرح الذي نطمح إليه, إنه رقابة صارمة, لأنك عندما لا تسمح لاتجاه مسرحي معين بأن يقدم إلى الجمهور وتفرض نوعا آخر, معنى هذا أنك تفرض رقابة من نوع خاص, فدعم هذه الأعمال سيؤخر المسرح خطوات كبيرة إلى الوراء وسيجعلنا نصل إلى المستوى الذي وصل إليه المسرح في مصر وهو أن هناك ظاهرة مسرحية, وهناك تقليد مسرحي, لكن لا الساهرين على المسرح ولا المثقفين لهم اقتناع بهذا المسرح, وطبعا هناك جهود تبذل في مصر من أجل الترويج للمسرح التجريبي وللمسرح الجاد, لكن مع ذلك يبقى هذا المسرح حاضرا بطريقة لا تخدم المسرح.

ما أخشاه هو أن نصل إلى منزلق خطير, لأن الطريق الذي نسير فيه الآن هو أننا ندعم هذا المسرح, في حين أننا نحارب المسرح الآخر, بوعي منا أو بدون وعي, لأنني لا أريد أن أفترض أن هذا العمل مقصود, لأنه إذا كان مقصودا فهذا يزيد من تعقيد الوضع, ففي الدول التي فيها تقليد مسرحي هناك على الأقل مسرح القطاع الخاص ومسرح القطاع العام, والسرح التجاري ومسرح البولفار بالمفهوم المتعارف عليه لكن نحن الآن لم نصل بعد إلى هذا المستوى لأننا لا نتوفر على بنيات تحتية وعلى تقاليد مسرحية وعلى جمهور يهتم بالمسرح وبالمشتغلين به, وبأخباره وبسيرورته لهذا فنحن في مرحلة تتطلب منا أن نحدد وأن نخطط للمستقبل وإلا فإن سيرنا في هذا الطريق (والذي لا يستحق حتى بأن نصفه بالتجربة والخطأ) لا يمكن أن يؤدي إلى مسرح بإمكانه أن يخدم الإنسان المغربي ويرتقي بذوقه, فما نشاهده هو أعمال تتسم بالتفاهة, إن لم تكن كلها فجلها على الأقل, ولا تستحق أن يراها الجمهور خاصة بواسطة إعلامية هي التلفزيون.

 

س: وماذا عن مبرر أصحاب هذا الاتجاه الذين يرون أن الإقبال الجماهيري عليهم يدفعهم إلى »تأصيل« البعد التجاري في المشهد المسرحي المغربي؟

ج: إن ما نخشاه هو أن نصل إلى تأصيل هذا النوع من المسرح في المغرب فهدف المسرح التجاري هو الربح والشباك, ومن حق المسرحيين جميعا, أن يحصلوا على الربح, حتى الذين يشتغلون داخل المسرح التجريبي ولا يخدم غيرهم, أما بالنسبة لإقبال الجمهور فقد عودناه على ذلك لأن فرق هذه المسرح تمتلك وسائل الترويج أو في استطاعتها الوصول إليها, ولها تجربة في ميدان الترويج مما يمكنها من بيع عروضها بطرق مختلفة, وهذا كله يمكنهم من كسب الجمهور.

لا بأس أن يوجد المسرح التجاري إلى جانب أنماط أخرى, ففي هذه الحالة سنقول, إن البقاء سيكون للأصلح ولا بأس أن نرضي شرائح المجتمع وكل فئاته, لكن ما يقلق في هذه الظاهرة, هو أن المسرح هو الذي يجد الدعم المالي ويجد الدعم الإعلامي, ويروج له, ويصل إلى الجمهور بواسطة التلفزيون والإشهار التليفزيوني, فبكل صراحة أنا حين أجد الجمهور يضحك في بعض المواقف أو من بعض الشخصيات التي تقدم في هذا النوع من المسرح أتساءل هل الجمهور المغربي وصل به الذكاء إلى هذا المستوى بحيث لا يستطيع أن يميز بين ما يستحق أن يشاهد وأن يثير ذوقه الجمالي ويثير ضحكه وبين ما يسيء إلى ذوقه.

المشكل هو أننا أمام فرجة تترسخ ولا أقول تتأصل, وتكتسب جمهورا لأنه ليس بديلا وعلى وزارة الثقافة والاتصال أن تنتبه إلى هذا الأمر إذا كانت فعلا تريد أن تخدم المسرح ورجاله, وإذا كانت تنظر نظرة مستقبلية, أن تدعم المسرح الذي يرقى بالأذواق, وليس المسرح الذي ينزل بذوق الجمهور إلى الحضيض.

 

 

 

 

حميد اتبـاتـو

 

الهاتـف

25 89 44 064 212

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.