يمثل
كتاب المرحوم الدكتور محمد الكغاط حلقة جديدة ولبنة إضافية إلى
الحفريات المتميزة في تاريخ المسرح المغربي، ذلك أنه يرصد برهافة
الفنان ودقة الملاحظ واشتغال الناقد تفاصيل البدايات التي طواها
النسيان· بدايات الكغاط في رحلة العمر المسرحي· ومن جميل الصدف وأرقاها
أن يصدر كتاب آخر يعالج نفس الموضوع، كتاب الأستاذ الحسين المريني
>من ثنايا الذاكرة<· يلتقي الكتابان في كشف البدايات الأولى
لتأسيس الجمعيات المسرحية، ثم رحلة العشق لهذا الفن الذي لم تخب جذوته
قط· المقام لا يسمح بقراءة مزدوجة للكتابين، سأركز فقط على
>الممثل وآلته< وسأركز أكثر على هاجس كان يشغل محمد الكغاط: هاجس
الإنسان· إنسانية الإنسان التي ظل مرتبطا بها ومدافعا عنها سواء في
أعماله المسرحية أو في هذا الكتاب أو في حياته الخاصة والعامة· وفي
اعتقادي، فإن البدايات الأولى لسيد محمد وعلاقاته بالآخرين وشغفه بهذا
الوافد الجديد وربما تلقائيته في التعامل مع الناس، كل ذلك غمره بهذا
الإحساس الجارف تجاه الآخر··· الإنسان· عن هذه التلقائية الجميلة
يحدثنا الكغاط عن مرحلة دقيقة في مساره الإبداعي· مرحلة البحث عن
مكان للتدريب على مسرحية لتشيكوف، فلم يجد أمامه إلا المركز الثقافي
الأمريكي· يقول الكغاط (ص 80)< كان علينا أن ننتظر سنين طويلة لندرك
أن براءتنا هي التي جعلتنا نتوجه إلى المركز الأمريكي من أجل أن نطلب
سقفا أمريكيا نهيء فيه مسرحية سوفياتية كيف يفهم التلقائية من يفتقر
إليها· كنا تلقائيين·· وكان مدير المركز أمريكيا···<· لم يكن
الكغاط آنذاك - لصغر السن - يعرف موضوعا ملتبسا اسمه الحرب الباردة،
كان يعرف فقط أنه بحاجة لسقف أودهليز·· أي مكان يتدرب فيه على نص
مسرحي· المسرح·· هذا العشق الصوفي الذي ولد مع الكغاط فاحتضنه بذرة
أينعت ثمارا ناضجة مع توالي السنين، بذرة أخصبت حب الإنسان، يقول في
الصفحة 103: >المسرح ولد مع الإنسان··· المسرح شقيق الإنسان·· علموا
الإنسان أن يحب شقيقه·· ابحثوا عن إنسانية الإنسان··<· هذا
الموضوع الذي عانقه الكغاط بشغف كبير - والذي أركز عليه هنا - طرحه
بأكثر من صيغة وفي أكثر من موضع، يقول في الصفحة 107، >أليس المسرح
مرتبطا بالإنسان وبالمدينة وبالديمقراطية وبالفكر الخلاق وبالأدب
والفنون، وبكل ما هو جميل >أليست ممارسته تعبيرا عن إنسانية
الإنسان<· نلاحظ هذا التماسك بين الديمقراطية والفكر الخلاق
وإنسانية الإنسان التي - في اعتقادي - لا تقدم كل ما فيها من خير وجمال
ومحبة الآخر والدفاع عن الرأي واحترام الرأي الآخر إلا حين تشع الحرية
ويستقيم أفق الديمقراطية· المسرح بالنسبة لمحمد الكغاط هو هذا الطرح·
هذا الموقف الذي دافع عنه دائما وهو يميز بين البحث في المسرح
والبحث عن المسرح يقول في الصفحة 110: >لقد بحثنا في المسرح، ولكننا
إلى الآن لم نبحث عنه··· بحثنا فيه باعتبارنا أكاديميين منطلقين من
أطروحة محدودة في الزمان والمكان، أو بصفتنا مدافعين عن وجهة نظر خاصة،
كوجوده أو انعدامه في تراثنا، والقالب الذي ينبغي أن نصبه فيه،
ومراوحته بين الهواية والاحتراف، ومجالات التجريب التي يخوضها، وما إلى
ذلك، ولكننا لم نبحث عن المسرح كأناس مجتمعيين ومدنيين يعشقون الحياة
ويسعون إلى تزيين دنياها بكل ما هو جميل وإنساني ورائع<· عشق
الحياة·· عشقها الكغاط حتى النخاع، ليس لأنها تستحق أن تعاش أو لا
تستحق، بل لأنها بكل بساطة هي المسرح الحي الذي استلهم منه تجاربه وعاش
فوق خشبته كل الأفراح والانكسارات، الآمال الكبرى والكبوات التي كانت
تعلم أكثر مما كانت تحد من الانطلاق نحو الأفضل· في الكتاب نقف على
حقيقة أخرى، هي هذا النضج الباذخ الذي وصله الكغاط، نضج في معرفة
الآخر، في محاورة الفن المسرحي بعمق وفرادة· في طرح تجربته الفنية
والإنسانية، في استحضار الأسماء والتجارب الوازنة، في اسنتطاق الأمكنة
التي كان لها تأثيرها الواضح على الكغاط الطفل··· ثم على الكغاط
الفنان· وهو يلخص كل ذلك بحكمة ونضج نادرين يقول في الصفحة 115:
>أليس التمسرح هو الجو الذي يبرز قدرتنا على التعايش والتجاور
والتحاور والتطلع إلى ما في دواخلنا من إنسانية الإنسان؟ ويسمو
باجتماعيتنا إلى أرقى مدارجها الروحية؟<· إن الكغاط - في مكان
آخر - يبجل الممثل، هذا الكائن الخرافي الذي يعشش داخل كل واحد منا،
يعليه المنزلة التي يستحقها كإنسان وفنان همه أن يقدم الجميل والرائع،
بل وأن يقدم القبح لتجاوز تعاسته· وإذا كانت آلة الممثل هي جسده، فإن
هذا الجسد الذي نظر إليه باعتباره مثار اللذة فقط، كان سببا في رفض
الظاهرة المسرحية عند الكثير من الأقوام· يقول محمد الكغاط في الصفحة
129: >أعتقد أن من الأسباب التي أدت إلى ظهور بعض الحركات المناهضة
للظاهرة المسرحية، سواء في الغرب في فترات معينة من تاريخه، أو في
العالم العربي عند بداية الممارسة المسرحية به، تلك النظرة التي حصرت
وظيفة الجسد في الإثارة والإغراء، ولم تنتبه إلى علاقة التفاعل
والتكامل بين المادي والمعنوي ولا إلى الجوانب الفنية والجمالية التي
تضفيها النفس على الجسد وإلى المسحة الإنسانية العميقة التي تطبعه
بها<· فعلا، لقد كان هذا الطرح، وهذه النظرة إلى الممثل عائقا
في تأسيس وتطوير الحركة المسرحية في الكثير من البلدان العربية
والإسلامية الموجهة فقهيا لكل ما هو ديني· وفي إطار الحديث دائما
عن الممثل نقف عند جملة دقيقة في الصفحة 120 حيث يقول الكغاط: >إن
الممثل البارع يستطيع أن ينقذ النص الضعيف من الفشل على خشبة المسرح،
في حين لا يستطيع النص الجيد الصعود بالممثل المتوسط إلى قمة
الأداء<· هل نقول إنها عصارة تجربة محمد الكغاط كممثل ومخرج؟
إنها كذلك بامتياز· إذ لا أحد يمكنه إصدار مثل هذه المواقف إلا من
عاشها بدمه وأعصابه، وعانى منها زمنا طويلا حتى رحل عنا··· وفي نفسه
شيء من المسرح· فاس: المهدي حاضي الحمياني
|