ا حين
امتطى ذلك الشاب النحيف ذو السابعة عشرة ربيعا دراجته النارية صيف 1958
بعدما انهى موسمه الدراسي متوجها الى الرباط قصد الالتحاق بمركز
الابحاث المسرحية· لم يكن احد يتبادر الى ذهنه انه سيصبح له شأن·
وسيكتب له التفوق ليصبح واحدا من اعلام المسرح بهذا البلد· انه دخل
المغامرة، والمغامرة كانت صفة ملازمة له في حياته، فهو اي محمد الكغاط،
كان يعامر في كل المجالات مما حبب اليه ان يركب سفينة التجريب في جل
أهم مراحل حياته· لقد عشق المسرح وسكنه جنونه منذ ان وعى ظروف
الحياة، وبحكم سكنه بواندو بحي باب الفتوح احد احياء فاس العتيقة· كان
يتوجه الى مدرسة العدوية للدراسة والتحصيل، وفي طريقه كان يمر بساحة
راس القليعة التي كانت تعقد فيها الحلقة على اختلاف اشكالها· فهذه حلقة
سيدي الحسين والمشاقرية· وهذه حلقة عيشة بطيط· وتلك حلقة ابا حماد
المراكشي وهو يروي سيرة سيف ذو يزن والعنترية، وتلك حلقة حربية الذي
كان ينزل من باب بوجلود الى راس لقليعة في بعض الاحيان· واعتبارا لكون
الحلقة هي شكل من اشكال المسرح الفرجوية· فقد ترسخت لدى المرحوم محمد
الكغاط محبة المسرح· فكانت اول فرقة انتمى اليها هي فرقة اشبال الاطلس
التي كان يديرها السيد لغراري غداة الاستقلال والتي كان من ضمن اعضائها
الزجال علي الحداني الذي سأله المرحوم ذات يوم ان كان يتوفر على نص
مسرحي فأجابه الحداني بالنفي مضيفا: لماذا لا تكتب انت مسرحية؟ فعجب
المرحوم لذلك وهو الذي اسند له في اول مسرحية تدرب عليها بمقابر باب
الحمراء باعتبار عدم توفر الفرقة على نادي هو دور جندي لا يتكلم! وعلى
ذكر علي الحداني فان المرحوم كان عاشقا لازجاله، لذلك كثيرا ما كنت
تسمعه يدندن باحداها مثل ياسيدي انا حر· وحين اصبح ذلك الشاب
القادم من مدينة فاس الى الرباط منتميا الى مركز الابحاث المسرحية سنة
1958 بعد اجتيازه مباراة القبول صحبة صديقه المرحوم عزيز الفيلالي
اكتريا منزلا بدرب سيدي العايدي بالسويقة· وكانا يدرسان بالمركز ليأويا
الى المنزل ليلا· وكان المركز يضم آنذاك خيرة الاسماء المسرحية عائد
وعزيز موهوب والشعيبية العذراوي وفاطمة الركراكي واحمد العماري وحسن
الجندي ومحمد الضمراوي وغيرهم، وحدث مرة والمرحوم يشخص دو را في مسرحية
اعمايل جحا، وكان يشرف على التدريب الممثل والمخرج محمد عفيفي الذي كان
يطلب منه ان يلقي جملة: كيفاش هذا هو جحا اللي كنت تايق فيه يخوني؟ غير
ان عفيفي يؤكد عليه لالقائها بطريقته >اي عفيفي< وحين تكررت
المسألة وكان الحاج عفيفي متواصلا اذا بالمرحوم يرددها بالطريقة
>العتيقة< فينفرج الجميع ضحكا ويغضب الفنان محمد عفيفي ويزبد
ويرغد· كان رحمه الله ذا روح مرحة ودعابة محببة للجميع ممن
يعرفونه· وحين اريد ان اعود بالذاكرة الى تلك الفترة التي عايشته
خلالها اجدني محتارا من أين أبدأ؟ وماذا احكي؟ هل احكي عن اول عمل
جمعني به رحمه الله بعدما كان كل واحد منا يعمل بفرقة ولكن تجمعنا
المهرجانات والملتقيات سواء داخل النادي الثقافي بالبطحاء او بمسرح
سينما لامبيريا يقدم بها عملا من الاعمال· باعتبار قلة النوادي في
بداية الستينات· فمن الاعمال التي شاهدتها له ممثلا دورا في مسرحية
>قلة الشغال مصيبة< التي شخصتها فرقة المسرح الضاحك للحسين
المريني في المهرجان الوطني سنة 1961 الذي نظم بفاس وعرضت فيه فرقة
المسرح العمالي مسرحية >الكراهية< وفرقة محمد الدغمي رحمه الله
من الرباط مسرحية اجتماعية نالت بها الجائزة الاولى للمهرجان· كما
شاهدته ممثلا في مسرحية >بين هلالين< التي قدمتها جمعية هواة
المسرح الوطني سنة 1962 بمسرح سينما امبير في اطار اقصائيات المهرجان
الوطني لمسرح الهواة· وهي من تأليف عبد اللطيف الحبابي واخراج احمد
الحليمي الوزير الحالي· ومسرحية >غضب الآلهة< لرشيد بن الشريف
التي اخرجها المرحوم زكي العلوي ونالت الجائزة الاولى في المهرجان
الوطني لمسرح الهواة الذي اقيم بالدار البيضاء سنة 1963، والتي مثل
فيها المرحوم دورا متميزا· وكانت فرقتنا اللواء المسرحي قدمت ضمن نفس
المهرجان مسرحية >المحامي على اربعة< للمرحوم محمد تميد تأليفا
واخراجا، كما عرضت بهذا المهرجان مسرحيتا >كاليغولا< لألبير كامو
واخراج وتشخيص المرحوم مصطفى التومي، وقدمت فرقة حسن الجندي من الرباط
مسرحية >الحقيقة ماتت< لاومانويل روبلس· وشاركت ايضا من مراكش
فرقة الاطلس التي كان يرأسها مولاي عبد الواحد· بعد ذلك قدمنا مسرحية
>عطيل< سنة 1965 بفضاء باب الماكينة الذي استولت عليه الآن احدى
الجمعيات وحولته الى ملكية خصوصية، واصبح يدر عليها المال الوفير،
وتعاقبت الاعمال فأخرج المرحوم احمد زكي العلوي مسرحية >وليلي<
من تأليف رشيد بن الشريف سنة 1966 فكان اول عمل التقي فيه مع المرحوم
حيث قدمناه بمسرح سينما امبير باسم جمعية مسرح الطليعة· وسنة 1969
تمكنت نفس الجمعية من نيل الجائزة الاولى بمسرحية >موت اسمه
التمول< من تأليف عبد السلام الحبيب واخراج احمد زكي العلوي·
ومكافأة لنا قمنا بجولة بالقطر الجزائري، حيث عرضنا هذا العمل بعدة
مسارح ودور للاوبرا، رسجلناه للتلفزة الجزائزية آنذاك بعرض خاص بأوبرا
الجزائر العاصمة· هذه المسرحية كان يشخص ادوارها المرحوم محمد الكغاط
ومحمد تميد واحمد زكي العلوي اضافة الى احمد الخمليش وهو الآن يدير احد
الفرق المسرحية بباريس، وسيدي الحسين المريني وعبد ربه وجواد الغماري
ومجموعة من الوجوه· وكان لنا طيلة الفترة التي قضيناها بالجزائر ذكريات
ومغامرات لن تنسى، اذكر انه خلال اول عرض لهذا العمل ونحن بمدينة
وهران، توجهنا الى المسرح، وبقي المرحومان الكغاط وتيمد يقضيان بعض
الامور بالعمارة التي كنا نقيم بها، وكان حارسها هو الآخر توجه لمشاهدة
المسرحية بعدما اغلق الباب· وحين اراد المرحوم التوجه الى المسرح لم
يجدا منفذا للخروج، وبعد بحث وجدا مخرجا لنادي المسايفة اخترقاه وسط
المسايفين الذين بهروا بهرولة المرحومين وهما يخرجان تحت السيوف!
كان اول عمل اخرجه المرحوم محمد الكغاط هو مسرحية >اللي كذب على
الملايكة< للمؤلف المصري علي سالم اعده سيدي الحسين المريني· وذلك
سنة 1969· وكان عملا تجريبيا غريبا على المسرح المغربي منذ 31 سنة· مما
يؤكد رغبته في التجريب منذ الوهلة الاولى· وتتعاقب الاعمال وتستمر معها
الذكريات الجميلة التي عايشت من خلالها الراحل العزيز عن قرب، فكان آخر
عمل اشتغلت معه فيه هو مرتجلة >شميشة للا< سنة 1996 والتي قمنا
بعرضها بعدة مدن: البيضاء، الرباط، فاس، مكناس والمحمدية· لقد كان
تأثير المسرح اليوناني واضحا في جل اعمال المرحوم· نجد ذلك في عدد من
اعماله· وهو الذي بدأ مؤلفه >بنية التأليف المسرحي بالمغرب من
البداية الى الثمانينات بقوله: >لماذا لم يأخذ العرب المسرح عن
اليونان؟ سؤال أريق فيه كثير من المداد، والتمس له كثير من الاسباب،
ووصل كل باحث فيه الى نتيجة تتفق مع النقطة التي ينطلق منها البحث، ومع
الرؤية التي يحددها صاحبه لمفهوم المسرح· هذا المفهوم لم يتحدد الى
الآن· ولا يمكن ان يتحدد مستقبلا مادام المسرح من اكثر الفنون تطورا
والصقها بالبيئة التي ينشأ فيها، ومادام نصا مسرحيا في مرحلته الاولى،
ثم عرضا مسرحيا في الثانية· ولكل منهما مميزاته وخصائصه، ومادام حقلا
ابداعيا يساهم في خلقه مجموعة من الفنانين تزيد قيمة عملهم بتعدد مواهب
كل منهم<· (انتهى كلام الكغاط)
لقد كان البحث هاجسا
يؤرق المرحوم· وكانت رغبته اكيدة في محاولة البحث عن اصول المسرح
المغربي وجذوره· لذلك نجده يقول في نفس المؤلف: >لقد انطلقت في بحثي
مركزا على النص المسرحي المغربي منذ بدايته· وتوقفت عند المحطات التي
اعتبرتها علامات مميزة في تطور هذا النص وسيرورته· ونظرا لقلة هذه
النصوص ولانعدامها احيانا، فقد تحول بحثي عنها الى بحث عن الاسباب التي
أدت الى اهمالها وفقدانها، وعندما جمعت قدرا لا بأس به منها واجهتني
مشكلة الانتقاء، فهل يتم بناء على ما··· ام اعتمادا على الجانبين معا؟
ومع ان قيمة النص الادبية لا تحضر اذا توفرت· فان عرض مسرحية من
المسرحيات ليس دليلا على جودتها<· ثم يضيف: >وهذا ما دفعني الى
البحث عن طريقة تجريبية في التعامل مع النصوص مستفيدا في عملي هذا، من
تجربتي في التمثيل والتأليف والاخراج<· ان هوسه بالبحث عن هوية
المسرح المغربي، جعله في الكثير من مؤلفاته المسرحية يمتح من الحكاية
الشعبية، حيث وظف السمايري والقاضي يزرف وشميشة للا في اعماله كشخصيات
اساسية، كما ان حبه للتجريب جعل الكثير يفاجأون بما يقدمه على خشبة
المسرح، ولعل الضجة التي قوبلت بها مسرحيته >النواعير< في
المهرجان الوطني لمسرح الهواة بمدينة الجديدة سنة 1974 جزء من ردة
الفعل التي كان رحمه الله يسعى لان يراها على الوجوه· واحيانا حتى وجوه
المشخصين! فذهب به بحثه وتجريبه لان يشارك في جملة من الاعمال
التلفزيونية الامر الذي وضع علامة استفهام أمام المتتبعين لمسيرة هذا
المبدع المؤلف الدكتور المختص في تدريس مادة المسرح بالكلية! ولما كنت
أوجه له السؤال كانت اجابته تتلخص في رأيين: انه يلج عالما غير عالم
البحث الاكاديمي فيكتشف فيه الكثير· وانه يعيش طيلة ايام تصوير العمل
التلفزيوني أجواء غير تلك التي الفها· فيكون ذلك كله بمثابة تجريب·
لقد عاش محمد الكغاط حياته مبدعا مجربا، فنانا في التمثيل والتأليف
والاخراج· فأبدع فيها جميعا، وترك لنا من الذكريات والعبر ما لا يمكن
ان ننساه رحمه الله·
فاس في: 2001/09/03 ابراهيم
الدمناتي
|