وما كان لنفس أن
تموت إلا بإدن الله، كتابا مؤجلا< (صدق الله العظيم) أيها
الاخوة الأكارم، ما كان يخطر ببالي وما كنت اتصور ان اقف في محفل
كهذا ـ يوما ـ لالقي شهادة في حق صديق حميم· ورفيق درب فني طويل من حجم
المرحوم الاستاذ السي محمد الكغاط وهو غائب عن المحفل، بل كنت اود ان
تكون شهادتي في حقه بحضوره الفعلي، ولكن ارادة الله ـ ولا راد لقضائه ـ
شاءت ان يغيّب الموت عنا الفنان المبدع السي محمد الكغاط وهو في أوج
عطائه الفكري والفني· عاش السي محمد الكغاط حياته عصاميا، طموحا،
متطلعا، لا يقف في وجهه حاجز ولا يعوقه عائق عن الصمود والاستمرار بل
يعتبر من بين العصاميين الذين يحق لهم الافتخار· بان الفضل في تكوين
شخصيتهم يرجع لعصاميتهم، وليس لشخص معين ولا لمؤسسة بعينها·
فالمتتبع لمسيرة السي محمد الكغاط العملية يجد أنه بدأها معلما،
ولكن طموحه وتطلعه دفعه الى الانكباب على التحصيل والتكوين فتدرج من
معلم الى مدرس فأستاذ جامعي فدكتور باحث· وكما في حياته العملية
تدرج في حياته المسرحية من ممثل الى مخرج فمؤلف ومنظر وناقد· عرفت
السي محمد الكغاط ـ رحمه الله ـ في اواخر الخمسينات من القرن الماضي،
عندما وقف اول مرة على خشبة المسرح ليمثل دور حارس في مسرحية
>الهادي العباسي< مع رفقة محمد الفراري وكان الدور يقتضي وقفة
حارس صامت ممسكا بعصى طويلة يظهر في جل مشاهد المسرحية، ورغم ذلك اثار
السي محمد الممثل انتباه المتفرجين، والمتتبعين، والمهتمين، الذين
تنبأوا بميلاد ممثل قد يكون له شأن في الميدان المسرحي، ومن ثم تلقفته
بعض الجمعيات، وبرهن ـ فعلا ـ على موهبة مسرحية خلاقة، ومتميزة·
وما ان اعلنت الشبيبة والرياضة عن مباراة لولوج مدرسة المسرح التي
اسستها ـ وكانت بحق ـ اول مؤسسة مغربية للتكوين المسرحي، وكان يشرف
عليها فنان فرنسي يدعى >بيير لوكا< فكان السي محمد الكغاط من
السباقين الى المشاركة في المباراة التي اجتازها بنجاح وتفوق، واصبح
طالبا بها الى جانب زمرة من الذين اصبحوا ـ لفترة طويلة ـ من الاطر
الفاعلة في المسرح المغربي أمثال: ادريس التادلي، والعربي بلشهب، وعزيز
موهوب، والهاشمي بنعمر وآخرون· والتحق السي محمد الكغاط وهو طالب
بفرقة المسرح المغربي الى جانب نخبة من رواد المسرح كأحمد العلج،
والطيب الصديقي، ومحمد عفيفي، وفاطمة الركراكي···الخ·· فاستطاع ان يقف
معهم ندا لند، إلا أنه ـ رحمه الله ـ وكعادته ـ ادرك ان اندماجه في
المسرح كممثل محترف، قد يحد من طموحه، ولا يبلغه المكانة التي يتطلع
اليها· فعاد الى مسقط رأسه لمدينة >فاس< ليتابع عمله في
التدريس· ويستمر في متابعة تكوينه العام ونشاطه المسرحي· وكان أول
تعامل مباشر لي معه قيامه بالدور الرئيسي في مسرحيتي·· قلة الشغال
مصيبة·· التي قدمناها سنة 1961 بالمهرجان الوطني لمسرح الهواة وحصلنا
بها على الرتبة الثانية أما تعاملي معه فوق الخشبة كممثلين فكان في سنة
1962 في مسرحية "بين هلالين" لعبد اللطيف الحبابي، وأثناء وقوفي معه
على الركح اكتشفت أن التمثيل أمامه ليس هو الجلوس معه على كرسي المقهى،
فهو ممثل له وجود قوي وحضور فاعل برغم من يقف أمامه على اليقظة والحذر
والانتباه ومسايرة الخطوط المرسومة للعرض المسرحي، وكانت له القدرة على
أن يعيد الممثل إلى شخصية دوره في حالة ما إذا شعر باضطراب غير متوقع،
وبطريقة فنية لا تؤثر على السير العام للمرض· وفي سنة 1968 أردنا
أن نعيد إحياء جمعية هواة المسرح، فقررنا أن نفتتح الموسم بمسرحية
"اللي كذب على الملائكة" اقتبستها عن مسرحية تحمل نفس الاسم "لعلي
سالم" وكان من المتوقع أن أقوم أنا باخراجها إلا أنني كنت مؤمنا بأن
السي محمد يتوفر على طاقات إبداعية غير محددة فلم لم يقم هو بإخراجها؟
ويقتحم ميدان الاخراج لأول مرة؟ فعرضت عليه ذلك على أن أساعده، فامتنع
- أول الأمر- وتردد كثيرا لأنه كان رحمه الله- يتهيب عملية الاخراج
التي كان يرى فيها عملية من أصعب العمليات في العمل المسرحي، لما
تحتاجه من دراية واسعة بكل الجوانب الفنية والتقنية وبأصول اللعبة
المسرحية ككل وأمام إلحاحي وتشجيع بقية الاخوان الذين تحمسوا للعمل
وقرروا المشاركة فيه وتحمل أعباء الحضور رغم بعدهم عن مدينة فاس لاجراء
التداريب فكان المرحوم "محمد تيمد" يأتي من مكناس، والأخوين عزيز صابر
من الدار البيضاء وإبراهيم الدمناتي من القنيطرة، أمام هذه المعطيات
قبل السي محمد أن يقوم بإخراج المسرحية، التي شارك فيها - إلى جانب
الذين سبق ذكرهم، عزالعرب الكغاط، وفاطمة شبشوب الخ·· فقام السي
محمد بإخراج المسرحية وتمثيل دورها الأول فبرهن على أنه رجل مسرح
متكامل وان ابداعه في الاخراج لا يقل عن ابداعاته في المجالات الاخرى·
وعندما بدأ خطوته الأولى في التأليف المسرحي كتب أول محاولة له-
على ما اعتقد هي مسرحية "الحوت والسمك" وهي على ما أعلم من مفقوداته،
وأتوفر شخصيا على بعض أوراقها وقد كان - رحمه الله- يأمل في أن يعيد
كتابتها من جديد· وبعدها ابدع مسرحياته المعروفة·· بشار الخير- ميت
العاصر·· زهرة- بغال الطاحونة الخ·· ومن المؤكد أن السي محمد الكغاط هو
أول مغربي - ان لم يكن أول عربي على ما أعلم- استلهم·· موليير-
وبيرانديلو·· وكتب المرتجلات وقد كنت شاهدا على ميلاد اول مرتجلاته
"المرتجلة الجديدة·· التي ولدت فوق الركح مباشرة من خلال التمارين
ابداعا وبناء وحوارا وتشخيصا ساعده في ذلك اخوانه الممثلين، وبعض طلبته
الذين كان يحرص على اشراكهم في جل اعماله التي يقدمها أمام الجمهور،
قصد تركيز المعلومات النظرية بالعمل المباشر· وكانت أجمل لحظات
لقائنا اليومي هي التي كنا نستحضر فيها ذكريات الماضي ونستعرض ما يزخر
به تراثنا اللغوي الذي بدأ ينقرض لقلة استعماله كاسماء الدروب والأزقة
وبعض الحرف والدورالعتيقة واسماء مرافقها، كالسطوان، والفصيل والرتاح
والسقلبية، الخ· وكان يحزفي نفسنا انقراض هذه المصطلحات كما كنا نعتزم
أن نجمعها في كتاب - أنا وهو- على شكل قاموس مفسر· ولكن إرادة الله
شاءت أن يغيب عنا قبل انجاز ذلك، ففقدنا بموت السي محمد الكغاط قطبا من
اقطاب الثقافة والفن المسرحي ببلادنا· فتحية لروحة الطاهرة وعزاؤنا
يكمن فيما تركه لنا من ابداعات سيكتب لها ولاسمه الخلود في سجل الادب
والثقافة والمسرح المغربي والعربي، فرحمه الله رحمة واسعة وإنا لله
وإنا إليه راجعون·
والسلام عليكم ورحمة الله·
فاس في:
1 شتنبر 2001 الحسين المريني
|